Search In this Thesis
   Search In this Thesis  
العنوان
الاتصال الثقافي والشخصية: بحث في الأنثروبولوجيا النفسية لمجتمع الواحات
الناشر
سيد محمد علي فارس
المؤلف
فارس، سيد محمد علي
الموضوع
الأنثروبولوجيا الثقافية التغير الثقافي
تاريخ النشر
2006
عدد الصفحات
401+115ص
الفهرس
يوجد فقط 14 صفحة متاحة للعرض العام

from 477

from 477

المستخلص

مناقشة النتائج في ضوء أهداف البحث والإطار النظري توخى الباحث إطاراً نظرياً متعدد الاتجاهات والأبعاد ( ومنهجه ثلاثية الأبعاد ) يلائم دراسة التحولات الثقافية والسيكوثقافية التي تجري في عالم ما بعد الحداثة التعددي , سريع التغير , والذي انداحت سياقاته , وتمثيلاته , ومعانية , وتمددت لتحتضن ثقافات محلية غير غربية كالثقافات الواحاتية. وأغلب الظن أن هذا الإطار النظري قد نجح في توجيه مسارات البحث واستراتيجياته لتحقيق هدف محوري تمثل في الكشف عن تأثيرات الاتصال الثقافي الكوني والثقافة الكونية في بنية الثقافة والشخصية والذات الواحاتية , التي حافظت على استمرارية , وآليات إعادة إنتاج سماتها ومعالمها , حتى وقت ليس ببعيد ، وكذا الكشف عن ما تعكسه هذه التأثيرات وما تمخض عنها من تغيرات ، ومن تحولات في بني سمات الشخصية المصرية. وقد كان وقوع الاختيار علي الثقافات الواحاتية بؤرة للبحث والمقاربة المتعمقة نابعاً من قناعة بأنها تتمتع مازالت بخصوصية ، وثراء فذ ، كما كانت تتميز بانعزالية ومحدودية توفر القدرة علي رصد ما ينجم عن الاتصال الثقافي الكوني من ضعف وتشوش لإدراك الحدود Deteritorialization واختراق الآخر الثقافي الغربي للثقافات المحلية . وتبدو مظاهر وتجسيدات هذا الاختراق الثقافي واضحة في السياقات الثقافية والاجتماعية – علي مستويات مادية وسلوكية وعياينة , ومستويات معرفية إدراكية - لا تكاد تخطئها عين الرائي , وتتجلى في القلق الذي يحيق بكبار السن من جراء التغيرات السريعة العاصفة واللامتساوقة التي تتواتر على الثقافات الواحاتية وتعتري الثوابت والمرتكزات الثقافية ، والتي يستشعرونها آليات تتهدد وجودهم .
لقد تأكد ولوج الثقافات الواحاتية إلى منظومة كونية تميز حقبة ما بعد الحداثية خاصة بعد ارتباطها بالسوق العالمي والرأسمالية المعاصرة – عن طريق تصدير محاصيل كالبلح – وبعد أن احتوتها دورانات السلع والمعاني والتمثيلات الكونية ، وحركة البشر في إطار السفر والسياحة ، وبعد هيمنة ايديولوجية النزعة الاستهلاكية ، التي تعتبر قوة دفع الرأسمالية الكونية التي في سبيلها إلى تحطيم القيم الثقافية التقليدية , المستندة علي القرابة وبني المجتمع المحلي . لقد أصبحت الثقافة الاستهلاكية قوة مؤثرة في الجماعات القاصية والأكثر انعزالا ، كما أصبح الاستهلاك محركاً أساسياً وعاملاً أو مبدأ يحدد تعاريف القيمة وتركيب الهويات ويشكل المجال الكوني( ). والواقع أن توافر الوسائط التكنولوجية والإلكترونية الناقلة لقيم العولمة الثقافية بمجتمع الواحات قد فرض على ثقافاته أن تصير جزءاً من , أو ترساً في آلة العولمة التي يعرفها- Suarez-Orozco بأنها عمليات تغير تولد ، في آن واحد ، قوى للطرد والإقصاء عن المركز( حدود الدول القومية ) ، وقوى للدفع باتجاه المركز ( ما بعد القومي )( ). وتفضي هذه القوى إلى تشويش إدراك الحدود ، ونزع الإقليمية عن الممارسات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، وذلك عن طريق انتزاعها من سياقاتها التقليدية داخل الدولة القومية التي أصبحت أقل أهمية بوصفها وحدة مترابطة ، خاصة بعد هيمنة الرأسمالية العالمية والليبرالية الجديدة، والشبكات متعددة الاتجاهات والمسارات( ). وبعد أن يسرت التكنولوجيا الحركة العابرة للقومية للبشر والمنتجات والميديا . وتعضد قوى الاندفاع نحو المركز ( الرأسمالي – ما بعد القومي ) آليات التجانس عبر المكان والمسافة . وفي وجود اندياحات السلع والصور والأفكار والسفر عبر الثقافية تتخلق إمكانية وجود تعددية داخل مجتمعات محلية كالواحات: تعددية اجتماعية وثقافية ، وتعددية على مستوي الممارسات والذوات . وبرغم انقسام منظري العولمة إلى فريقين يؤيد أحدهما تبلور تجانس كوني , بينما يؤكد الآخر على تولد لاتجانس لا محدود ، فإن هذا البحث قد كشف إمكانية أخرى يتعايش من خلالها التجانس واللاتجانس معا ، وذلك في عالم ما بعد (11) سبتمبر الذي تغير فيه الولايات المتحدة سياساتها حيال العولمة,وتركز علي العولمة السيكولوجية والذهنية( ) ، ويسهل فيه اختراق الحدود وعبورها بمرونة ، والذي يتزامن مع الدفاع عنها . واليوم ينظر إلي الثقافة باعتبارها عائقاً خاصة الثقافة التقليدية التي ترتبط بميل أو استعداد ثقافي أو سيكولوجي يحول دون اعتناق الحداثة والتوحد مع ثقافة الليبرالية الجديدة( ).
أفرزت العولمة الثقافية ثقافية كونية نجد آثارها وقيمها – كالفردية – ماثلة في ثقافات غير غربية كالثقافات الواحاتية ، وتحقق بصورة تدريجية تحريراً للثقافة المحلية وتدميراً لبعض مظاهرها ، وتصوغ هجائن ثقافية كريولية ، وذلك بتأثير السرديات والصور التي تبتها وسائط الميديا . إذ لم تعد معرفة الأفراد محدودة بالزمان والمكان في عالم أطلق عليه مانويل كاستلس ” مجتمع الشبكة ”( ) ، وبات الأفراد في جميع أنحاء العالم يمرون بخبرات متشابهة وحوادث واحدة وتتراكم لديهم ذكريات كونية عن أمور وحوادث تتواتر علي آذانهم دوماً. وكما تتشابه خبرات البشر ، قد تتشابه اتجاهاتهم وقيمهم واستعداداتهم ، وهو ما يحقق الوحدة الثقافية ، والانفصال بين الزمان والمكان ، حيث أصبح الزمان زماناً كونياً مفتوحاً ، وأصبح المكان ممتدا في الأفق ، وأصبحت العلاقة بين ” أين ” ” ومتي ” لا تحدد بالضرورة عبر وساطة المكان( ). وقد خلص هذا البحث إلي حضور ” ثقافة ثانية ” تتفاعل مع الثقافة الواحاتية المحلية لتتولد ” ثقافية ثالثة ” تجمع بين التقليد والحداثة والحداثة المتأخرة أو ما بعد الحداثة ” ، وبين الجمعية والفردية ، وبين الكونية والمحلية ، وبين العقلانية واللاعقلانية ، بما يعني أن هذه الثقافة الثالثة ( الجديدة ) تستند علي عدد من التمفصلات المنبثقة حديثا بتأثير الاتصال الثقافي الكوني ، وعلى آليات بينصية تنطلق من التفاعل بين الثقافات الجمعية والفردية التي يعتبرها ما بعد الحداثيون نصوصاً .
أفضى اتصال الواحات الكوني بالعالم إلي تضعيف التناقضات داخل ثقافاتها وتفكيكها تدريجياً ، إذ بات هذا الاتصال مصدراً رئيسياً للدينامية ، وأداة تعيد ترتيب الزمان والمكان ، وتعضد تقوية وتكثيف الانعكاسية الاجتماعية ، وتعري السياقات التقليدية للفعل . ذلك أن العولمة تعبر عن ”فعل عن بعد ” تتشكل بتأثيره الأنشطة والممارسات المحلية بأخرى كونية ، كما تعبر عن تفاعل اجتماعي من نوع جديد يؤثر في الحياة اليومية للواحاتية . لقد فرض الاتصال الثقافي الكوني أعباءً وخيارات جديدة للهويات والتفاعل المحلي . وقد بات من المتعذر تجنب أفراد الواحات للآخر الثقافي، والطرائق البديلة للحياة التي غدت ماثلة وحاضرة علي الدوام داخل السياقات الثقافية المحلية لتعيد صياغة تمثيلات ومعاني الذات والهوية الواحاتية ،وذلك نظرا للدور الذي تضطلع به شبكات الاتصال الكونية في إعادة ترتيب الزمان – المكان ، ومن ثم في تيسير التحولات التي تحدث في التدفقات الكونية للسلع الرمزية والمعاني الثقافية. واستنادا علي مشاهدات امبيريقية يمكن القول أن ما حذرنا منه كاستلس قد تحقق في مجتمع الواحات الذي بات يعاني من ” شيزوفرينيا بنائية ” حيث يتمزق بين منطقين مكانيين: فضاء التدفقات الذي يفرزه التدفق الكوني للسلع الرمزية ، وفضاء الأماكن الذي يتشكل من تموضع وسياقية الحياة اليومية .
اتضح في ثنايا هذا البحث ومن واقع المعرفة الأنثروبولوجية أن بعض القيم ما بعد الحداثية قد تسربت إلي الثقافات الواحاتية ، ويأتي في طليعتها قيم المساواة في الحرية ، والرضي بالحياة ، والاستقلالية ، والتغير ، وحرية الإرادة ، والترويح ، والثقة في الناس (الآخرين) والتخلي عن النظرة الارتيابية . اتضح كذلك أن ثمة تغيرات واضحة طرأت علي رؤى العالم قبل الحديثة التي تميز الواحاتية ، علي سبيل المثال تعتري رؤية الزمان الواحاتية التي تتميز بأنها دائرية وأبدية وموجهة بالماضي تغيرات تكتسب من خلالها سمات الرؤية الحديثة وما بعد الحديثة للزمان ، والتي تتميز بأنها خطية أو متعددة الخطوط ، وموجهة بالمستقبل أو موجهه بالحاضر. وتعتري رؤية المكان باعتباره هيراركياً ومغلقاً وثابتاً تغيرات تكسبها سمات حديثة وما بعد حديثة مثل رؤية المكان علي أساس أنه فوضوي لعوب ومفتوح ومرن ومتغير وانتقالي وممتد . وتكتسب رؤية الوجود سمات الدنيوية والذاتية بديلا عن الأخروية والمتعال . أن تسرب القيم ما بعد الحداثية إلى مجتمع الواحات الذي لم يخبر الحداثية وما بعد الحداثية علي الصعيد الاقتصادي والسياسي الواقعي تضع هذا المجتمع ، ومجتمعات طرفية أخري ، في أزمة تحول لم تستطع حتي الآن أن تتخلص منها . وكلما تطورت هذه المجتمعات ، تفاقمت الأزمة ، معبرة عن نفسها في مظاهر التفكك ومظاهر للتداخل . ويظهر التفكك بشكل أكبر علي مستوي الأبنية الواقعية ، وفي الأبنية الطبقية ، وفي المنظومات القيمية والمعيارية ، وفي الأنماط الإنتاجية. أما التداخل .فإنه يظهر على مستوى الخطاب , حيث يميل إلى أن يكون خطاباً توفيقياً تمفصلياً يجمع بين عناصر متناقضة , وغالباً ما يكون هذا الخطاب فوقيا مفارقا للواقع , محاولاً أن يطل على هذا الواقع من أعلى , وأن يعيد تشكيلة , وهو أمر يساهم في تضعيف مظاهر التفكك على مستوى الواقع( ). ويبدد تسرب القيم النسبية ما بعد الحداثية جمود الثقافات التقليدية واليقين الذي عاشت فيه سنين طويلة , خاصة اليقين المرتبط بالحقيقة والأخلاق والطبيعة والجنس والاقتصاد لقد بات المحليون يصنعون أنفسهم ويعيدون صناعتها بلا انقطاع .
لقد أقحمت وسائط الاتصال الثقافي الكوني بعض العناصر الثقافية الغريبة والدخيلة على السياقات الثقافية الواحاتية ,وتطفو هذه العناصر على الدوام داخل هذه السياقات بما يثير تناقضات ويُفقد هذه الثقافات اتساقها وتناغمها . بناءاً على ذلك يمكن القول أن الثقافات الواحاتية المعاصرة تكتسب تدريجياً بعض سمات الثقافة الاستهلاكية والثقافة ما بعد الحداثية , مثل التفتت والتشظي . وتفتقر هذه العناصر الثقافية الجديدة إلى عمق من العلاقات وإلى محال إليه , ويفرز وجودها واقعاً جديداً يشبه المزيج أو الخليط، ويتألف من كثرة من الهجائن التي تتبنين من المحلي والكوني , والهنا والهناك . وتكون النتيجة تفكيكا لبنية الثقافة التي صمدت طويلاً في ظل محدودية سياقاتها وآفاقها ، وظهور بنية تتسم بأنها لاخطية ومفتوحة النهاية وتتميز بالازدواجية والتناقض والنسبية والعرضية وتعددية الهويات .
تتفكك مظاهر الحياة الجمعية بالواحات بتأثير ثقافة كونية حاضرة وماثلة دوماً, يتضح هذا التفكك على مستويات عدة، ويتخذ مظاهر عيانية مجسدة من أبرزها تفكك الوحدة القرابية وضعف علاقاتها التكوينية ,وتحلل إطار شكل الحياة الجمعية التقليدية بالواحات . يعني ذلك أن ” النحن ” تتفتت في مقابل التحصن خلف الأنا , أو على الأقل يصبح النحن مهدداً في مقابل ظهور صور جديدة من الحدود . ونستطيع أن نتخذ من تزايد أحداث العنف اليومي مؤشراً على وجود هذه الآلية( ) يعني ذلك أيضا أن ثمة آليات وقوى كونية تنخر في جسد رأس مال العلاقات الاجتماعية وتهدر قوة تماسكه وتأثيره , وذلك بوصفه مجموعة الموارد المتأصلة في العلاقات الأسرية والتنظيم الاجتماعي للمجتمع المحلي , التي تدعم وتحدد النمو المعرفي للطفل والبالغ . وتنال هذه الآليات والقوى من رأس المال الاجتماعي داخل نطاق الأسرة وخارجه في المجتمع المحلي . ومادام رأس المال الاجتماعي جزءاً من البناء الاجتماعي ومكوناً جوهرياً من مكوناته فإن التلف أو التشظي الذي يلحق به , يسبب بالضرورة تلفاً وخللاً في البناء الاجتماعي , وكذا في قدرة هذا البناء على توجيه أفعال الأفراد وسلوكياتهم وتمثيلاتهم للعالم , وقدرتهم على إنجاز وتحقيق أهداف مشتركة .
يعكس تفكك رأس المال الاجتماعي تنامي النزعة الفردية وطغيان الطابع الفردي على العلاقات والروابط الاجتماعية ,يتجسد ذلك في مظاهر عيانية كالانفصال عن المنزل التقليدي والميل إلى الحياة الفردية، على سبيل المثال لا الحصر . وتفقد شبكات العلاقات الاجتماعية تأثيرها وأهميتها في مجتمع الواحات المعاصر,يترك ذلك بصماته الواضحة على مستويات لامادية ومادية، حيث بات الفرد مفتقراً للدعم المعنوي والمادي الذي كانت توفره الجماعة للفرد الذي يرتبط باستراتيجية تحقيق أهدافها الجمعية ,يدفع ذلك الفرد إلى التحصن خلف الأنا والذات وإسقاط الجماعة من الحسبان .والواقع أن هذا التحول ينعكس تأثيره على موجودات مادية كأسلوب بناء المسكن وشكله : ” عندنا في باريس دق الطوب بقى يكلف دلوقتي عن زمان .. لأن مفيش مساعدة ولا تعاون زي زمان .. وبقى لازم الواحد يأجر ناس تشتغل معاه .. علشان كدة الناس بتستسهل وتبني بالبلوك والأسمنت ..”. وقد كان من النتائج التي خلص إليها هذا البحث نتيجة مؤداها أن انفتاح المكان الاجتماعي والسياقات المحلية يفرز ضعفا وتفسخاً للعلاقات والروابط الاجتماعية ورأس المال الاجتماعي , وتنامياً للنزعة الفردية . وقد أتاحت التكنولوجيات الجديدة -كالإنترنت – تكوين روابط من نوع جديد تتسم بالطابع الوقتي مفتوح النهاية , وأفضت إلى تآكل وتحلل أشكال التضامن الاجتماعي المستندة على الجيرة والعلاقات القرابية , خاصة بعد فقدان الروابط والعلاقات الاجتماعية لأهميتها وصرامتها ، وتحولها إلى كيانات أو موجودات مرنة سائلة .المحصلة النهائية لذلك حدوث تفكيك للآصرة التي تربط بين الأنساق الاجتماعية والشخصية ,كما تؤدي الشخصية وظيفتها عن طريق الأنساق الاجتماعية. نجم ذلك عن اتصال الواحات الثقافي بالعالم الخارجي الذي أدى إلى تضعيف وتوسيع مواقف وسياقات التفاعل التقليدية المحددة لسلوكيات الفرد وشعوره بهويته فقد باتت هذه السياقات كونية يتاح فيها للفرد الاندماج في ثقافة إلكترونية وجماعات فضائية .
من المنطقي , والأمر كذلك , أن تفضي التغيرات التي تمخضت عن تفكك إطار شكل الحياة الجمعية الواحاتية بتأثير الاختراق الثقافي الكوني للثقافات المحلية , حتما إلى حدوث تغيرات لا سبيل إلى إنكارها – في ”الداخل” السيكولوجي . إذ تعتري بنية سمات الشخصية الواحاتية التقليدية والبناء الأساسي للشخصية الواحاتية بوصفة نمطاً للتكامل يستند على الخبرات المشتركة لأفراد المجتمع المحلي تغيرات وتحولات افرزها وجود خبرات مشتركة كونياً – ألـ Chat نموذجاً – وفقدان الخبرات المحلية لمحدوديتها وهكذا بات من المتعذر التعرف على مجموعة من السمات المشتركة تميز الجماعة الواحاتية بعد تراجع دور سياقات الخبرات المحلية، ومؤسسات الغرس الثقافي التقليدية في تشكيل البناء الأساسي للشخصية . والحقيقة أن حضور رموز وصور وتمثيلات كونية في السياقات الثقافية المحلية يفرز سمات لشخصية جديدة يغلب عليها الفردية والغرائزية والمادية ,خصوصاً وأن هذه الرموز والصور تتسم بجاذبية تضعف من تأثير الرموز والمعاني المحلية التي كانت تحدد,وتصوغ ,منفردة الطرق النمطية للتفكير والشعور والسلوك . وتفرض الثقافة الكونية على الواحاتية ضرورة التكيف والتوافق مع مواقف جديدة , وهي ضرورة تمزق الفرد وتجعله مستقطبا من قيم ورموز تقليدية,وقيم ورموز حديثة , وتفرض سمات عدم الاتساق والتناقض على سلوكيات الفرد وأفعاله.
وتنال التغيرات والتحولات العاصفة التي تقوض مرتكزات الحياة الجمعية الواحاتية من بنية الأسرة (الأبوية) وسلطتها التقليدية على آليات تشكيل شخصية الفرد وتوجيه أفعاله. ذلك أن الفرد قد بات ينشأ خارج الإطار التقليدي للأسرة الأبوية ويتمرد عليها , وينخرط في عمليات توافق وتواؤم مع عوالم وأدوار متباينة تخلق شخصية فردية شديدة التعقيد والتركيب قادرة على التكيف مع السياقات الاجتماعية والثقافية المتغيرة التي تحتضن المراهقين في مجتمع الواحات المعاصر. وقد تحقق الباحث من صدق فرضيات نظرية تتعلق بتأثير الثقافة الكونية في بنية العلاقات داخل الأسرة , حيث تكتسب هذه العلاقات اليوم الصبغة الفردية وبصورة متزايدة, فيتحول التأكيد إلى أهمية الحاجات الشخصية وأهداف الفرد واستقلاليته بعيداً عن قواعد النظام وحاجات الجماعة وأهدافها .يفسح ذلك المجال أمام تحرر الجسد من قيود الثقافة ، والحرية الجنسية وحرية التعبير عن الانفعالات , كما يضفي صبغة العادي والمألوف على الرغبة الجنسية والعنف غير المبرر. ويتشكل نمط جديد للشخصية قوامه القلق , وقيم التنوع والاختلاف , وتوكيد الذات والاستقلالية , وقد تتمفصل هذه الأسس مع قيم التوافق والأمثال والاعتمادية والتركيز على أهداف وتصورات الجماعة.
ومادامت الشخصية – في رأي ما بعد الحداثيين – معنى يتم تفاوضه تبادلياً على الدوام ويرتبط بالخطاب الاجتماعي المحلي ، فإن تسرب معاني وتمثيلات كونية إلي السياقات المحلية والخطاب الاجتماعي المحلي قد يصوغ – على المدى البعيد – شخصية كونية ,يتم ذلك تدريجياً ويرفد من تشظي محدودية المكان وضعف تأثير المعاني الثقافي المحلية التي كان الفرد يصوغ في إطارها حياة سيكولوجية متماسكة من خطابات الحياة اليومية أو عن طريق التفاعلات الرمزية التي تجري في إطار الأعراف والعلاقات والتقاليد المحلية . لقد صار ” الاجتماعي ” الواحاتي مفتوحاً , على نحو نسبي , تعتمل فيه قوى الاحتمالية والتعارض والتفكك والتشويش والتناقض والازدواجية . ويفضي انفتاح ” الاجتماعي ” والمكان المحلي وانكسار محدوديته إلى تعويق عمليات إعادة انتاج المعاني الثقافية, وتشويه تلك المعاني التي توصف بأنها تأويلات تثيرها موضوعات أو موجودات وحوادث معينة في الفرد . وتحوي هذه التأويلات توقعات ومشاعر ودافعية تتصل جميعها بالموضوعات والحوادث المعينة. النتيجة الحتمية لما يلحق بالسياقات الثقافية والمعاني من تشويه هو حدوث تشويه للصيغ المعرفية أي تنظيم المعرفة الذي يوجه التفكير وعمليات الفهم والإدراك والاستدلال,ويصوغ التأويلات والتفسيرات التي ينتجها الأفراد للعالم,وتحدد الاستجابات السلوكية. وقد كشف البحث أيضا عن أن التمثيلات الثقافية الكونية تغزو المجال المحلي للتمثيلات الثقافية الواحاتية , يؤثر ذلك في العمليات السيكولوجية على اعتبار أن هذه التمثيلات يفرزها سياق العلاقات والتفاعل الاجتماعي , وتوجه إدراك الفرد للعالم والتأويلات والمعاني التي يخلعها على موجوداته , وكذا أفعال الفرد وتفاعلاته مع الآخرين. إن التشويه الذي يلحق بالتمثيلات الثقافية الواحاتية بتأثير تجاورها مع تمثيلات كونية أكثر جاذبية , قد يفضي على مدى منظور إلى تشويه التمثيلات العقلية للأفراد والهابيتوس , وذلك على اعتبار أن التحول في الظروف الموضوعية والأبنية التكوينية يؤدي إلى تغيرات تعتري الهابيتوس أو انساق الميول والاستعدادات الراسخة والقابلة للتحول والتي تعتبر أبنية متبنينة ومبادئ لتوليد الممارسات والتمثيلات .
أن اتصال الواحات المكثف ” بالخارج ” قد أحدث تغيرات تعتري بنية الذات وتصورات الفرد لذاته .حيث تتحول الذات الواحاتيه من الاعتمادية والتمركز حول الجماعة والحقوق والالتزامات التي يرثها على أساس عضويته في الجماعة القرابية , إلى الاستقلالية والتمركز حول الأنا.وبرغم التحقق من صدق فرضيات ما بعد حداثية تتعلق بتعددية الذات وموقفيتها وطابعها المراوغ على المستوى الامبيريقي , فإن هذا البحث قد خلص إلى أن المواقف الجديدة والتمثيلات الوافدة تفرض على الفرد إنتاج وتبني كثرة من تمثيلات متعددة للذات تبرز وتتوارى اعتماداً على متطلبات أو مستلزمات الموقف. وهنا يقرر انتوني جيدنز أن الفاعل المعاصر ينخرط في مشروع يهدف إلى تكوين وتشكيل الذات في خضم التنوع الاجتماعي والثقافي الهائل , يكون من مخرجاته أو نواتجه تبلور ذات معتمدة ,متعددة الأوجه ,وحوارية بصورة مفرطة ذلك أن الفرد في الواحات بات يحدد ذاته وتمثيلاته وتصوراته للذات عن طريق عمليات حوارية وديالكتيكية مع الآخرين المحليين والكونيين , تصوغ وتركب الذات وتعيد تركيبها باستمرار. يضعف ذلك من الثبات النسبي لسمات الذات والشخصية الواحاتية , ويمزق الروابط المتمأسسة بين الشخصية والسلوك , ذلك أن الفرد قد أصبح يوائم ويكيف تمثيلاته الذاتية مع الظروف المتغيرة للحياة , ويرتدي كثرة من الأقنعة الاجتماعية أو وينتحل شخصيات قناعية متباينة. معنى ذلك أن الاتصال الثقافي الكوني قد فاقم من الطابع المتقلب والمتلون المميز للذات والشخصية.فالفرد بات ينخرط في تجارب لا نهائية , أو عملية تجريب تثير القلق والتشوش وتفقد الهوية سماتها الجوهرية , يتضح ذلك في التحولات التي تنال من الهوية الواحاتية خاصة الهوية الاجتماعية والثقافية.ومع ثبوت فرضية ما بعد بنائية عن الطابع التركيبي للهويات ومرونتها وتحولها الدائم,فإن هذا البحث قد خلص إلى أن ثقافة الاستهلاك وثقافة الميديا والثقافة القومية تضفي جميعها على الهوية مزيداً من المرونة والسيولة وتفقدها ثباتها النسبي. نخلص من حصيلة المناقشات السابقة إلى أن اتصال الواحات بالعالم الخارجي قد ترك أثاره وبصماته على الذات الشخصية والهوية الواحاتية فقد باتت جميعها تفقد سمات وتكتسب أخرى بصورة تدريجية ,قد تفقد بنية السمات تلك جوهريتها الخالصة التي حافظ عليها لردح من الزمان – انغلاق ومحدودية السياقات الجغرافية والثقافية الاجتماعية الواحاتية .
رأينا أن معظم نظريات وبحوث العولمة والثقافة الكونية تنصب على مقاربة ومناقشة مظاهر الهدر والتلف والتدمير الذي يلحق بالمجتمعات المحلية الهامشية على أصعدة اقتصادية وثقافية واجتماعية ,وذلك مع التغاضي عن مظاهر وآليات المقاومة الثقافية المحلية . وربما يكون من الضروري أن يشارك الباحثون المصريون في علم الاجتماع والأنثربولوجيا في بناء نظرية ” للمقاومة ” , استناداً على بحوث امبيريقية تكترث كثيراً بربط المحلي الداخلي بالكوني الخارجي , وبتحقيق التكامل بين التحليل على مستوى الوحدات الكبرى (الماكرو) والتحليل على مستوى الوحدات الصغرى (الميكرو)( ) , وبفحص أو رصد تأثيرات الثقافة الكونية والثقافية ما بعد الحداثية في الثقافات المحلية , وتتخلى جذرياً عن فرضيات انعزالية السياقات والقول بأنها تتسم بالاحتواء الذاتي. لذلك يتحتم اختبار نظريات معاصرة كموجهات للبحوث, والمشاركة بفعالية في السجال العالمي الذي يعمد المشاركون فيه إلى تفكيك النظرية الاجتماعية والأنثروبولوجية وإعادة تركيبها من منظور كوني متحرر من الحدود وحصار المكان الاجتماعي , ومن فرضيات كلاسيكية زائفة عن ” المحلي ” كالتضامن والتماسك والاحتواء الذاتي .